كلما ازدادت المشاكل واختلفت الدروب تطلعت الأمم إلى المربين تسألهم أين الطريق الصحيح؟ وبالتالي لا خلاف حول أن للمربي دورًا فاعلًا في الموقف التربوي، فهو الذي يدير عناصر الموقف التربوي، وهو الذي يتواصل مع أطفاله ويزوده بالتغذية الراجعة عن الحياة والعالم بأسره، فالمربي هو حامل لواء التربية ورائد الركب، هو المؤتمن لتوصيل الثقافة المرتضاة للأجيال ولتطوير كفايات الأبناء، معهد الآمال.
ولكن كم هو مقدار الخطأ الذي يقع فيه بعض المربيين عندما يعملون بقصد أو دون قصد على استصدار نسخ كربونية عنهم دون أي مراعاة لجوانب التميز والتمايز والفروق بينهم وبين الآخرين!، لذا مهما بلغ منك الاهتمام بالإتقان في التربية مع أبنائك، ولكن قد يضيع كل ذلك هباءً حين تكون غير مؤهلًا عمليًا وعلميًا في تربية الأبناء، لأن المربي غير المؤهل يضعف أثره وفي المقابل، فان المربي المؤهل يستطيع تجاوز كثير من جوانب قصور تربية الأبناء.
ومن هنا يأتي السؤال الأهم، ما الدور الذي ينبغي أن يمارسه المربي في تربية الأبناء وإعادة بناء علاقات معهم من جديد؟، ما هي أهم مهارات المربي المؤثر والناجح؟
وقبل أن نبدأ مقالتنا، نود أن نشجعك ونحمسك إلى أنه أنت حين تحمل رغبة ما صادقة في التأثير على من حولك، ولا سيما طفلك فإن هذا لا يعني أنه يجب عليك تحقيق هذا التأثير على وجه الكمال، ولكن المميز أنك فقط خطوت الخطوة الأولى نحو التأثير فيهم وعليهم، فليس هناك أفضل من الرغبة والهمة إلا القوة الدافعة لتحريك العربة ألا وهي " طفلك"، وستجد تباعًا تباعًا أن المهارات التي تحتاجها ستأتي تباعًا لتوجيه هذه العربة نحو الوجهة والهدف المراد عند سائقها ألا وهو " أنت كمربٍ".
المربي المؤثر هو الشخص الذي يمتلك القدرة على الإقناع ونقل المعلومات لأبنائه بكل يسر وسهولة، ولديه القدرة على التحاور مع أبنائه وجذب انتباههم وإقناعهم بأفكاره وخططه وأهدافه.
يقول الفيلسوف الألماني إيمانويل "هناك اكتشافان إنسانيان يحق لنا اعتبارهما أصعب الاكتشافات، هما فن حكم الناس وفن تربيتهم". لذا حين تتفكرعزيزي المربي وتنظر إلى كيف تكون تربيتك لأطفالك في هذا الزمن؟! ستجد أن تركيزك وجهدك منصتان في الجزئية الأولى وهي (المعلومة) وإهمال الجزئية الثانية والأهم وهي (الوسيلة) إهمالًا كبيرًا.
ومثال على ذلك، عندما تريد تربية أحد أبنائك على فضيلة الصدق، تجد نفسك تركز أكثر على معلومة الصدق وتكتفي بالجلوس مع ابنك وإخباره بأن عليه تطبيق هذه الفضيلة دائمًا، وتقف هنا على اعتبار أنك أديت مسئوليتك والخلاصة من ذلك، هنا نقدر أن نقول أنك نجحتُ في إيجاد معلومة ممتازة وقيمة، لكن للأسف وسيلتك المستخدمة لتوصيلها لابنك لا ترتقي نهائيًا مع زمن كثرت فيه الفتن وتسويق السلوكيات السلبية والأخلاقية من كثير من وسائل الإعلام ورفاق السوء بطريقةٍ مغريةٍ جدًا.
النوع الأول : صنف لا يبذل جهدًا ووقتًا في تربية أبنائه وهو بذلك، لا يراعي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم « كلكم راعِ وكلكم مسئولٌ عن رعيته».
النوع الثاني : صنف آخر يبذل جهدًا ووقتًا كبيرين، لكن من دون علم فهو يستخدم معلومات قيمة لكن دون الوسيلة الصحيحة، ومن المؤسف أنه أحيانًا هذا الصنف من المربيين يسبب أزمات أكبر وأخطر من الصنف الأول، لأنه قد يولد لدى المربي كرهًا وبغضًا لهذه المعلومة القيمة بسبب استخدام وسيلة غير صحيحة أو ربما كان الإلزام والعقاب هو وسيلة المربي الدائمة والوحيدة.
ومن هنا نستطيع أن نستخلص أنه لا شك أن المعلومات والقيم الحميدة متوفرتان وجمیلتان، لكننا نقبحها كثيرًا بسوء وسيلتنا، وأحيانًا نزيدهما جمالًا بجمال الوسيلة المستخدمة مع أبنائنا، وإنه مما يؤثر تأثيرًا بالغ السلبية أحيانًا على تربيتنا لأبنائنا، أن نمارس التربية سليقة وعادةً دون مهارة وعلمًا.
وقد يزداد الأمر سوءًا عندما يخطر عند بعضهم أن التقعيد للتربية هو تعقيد لها، وتضييع لصفائها ويسرها وتلقائيتها ولربما استُدِل على ذلك بتربية الآباء والأجداد العفوية، وقد غاب عن هؤلاء اختلاف البيئات، وتعقد المطالب بل وبعض الآثار السلبية أحيانًا لتلك التربية التلقائية والتي تصبغ ابنك في الغالب بواقع المربي لا بالمفروض منه.
إن مهارات المربي تنقسم إلى ثلاثة محاور وتأتي هذه المهارات أو لنقل الإشارات التربوية لتقديم آليات ورؤى وأفكار حول مهارات يُحسن بالمربي أن يملكها لتكون عونًا له بعد الله تعالى في الوصول إلى هدفه في تربية أبنائه على الوجه الأكمل.
من مهارات المربي المؤثر أنه يجيد مهارة التواصل الإيجابي مع أبنائه على المستوى الفكري بالحوار، وعلى المستوى العاطفي بالحب، وعلى المستوى السلوكي باللعب والقصة حتى يجعلهم مجذوبين إليه دومًا، تابعين له دون أي انحرافٍ عنه، فالمربي يجيد مهارة الإنصات الجيد لأبنائه وكيفية إدارة الحوار معهم لحل مشكلاتهم وإشباع حاجاتهم.
على المربي المؤثر أن يكون مرحًا متواضعًا متفائلًا متعايشًا لا يُعقِّد الأمور، يتجاوز أزماته سريعًا يستمتع بطفولة أبنائه ويعيش معهم أجمل لحظاتهم بروح طفل يحب الفكاهة والنكتة غير المبتذلة يحافظ على مشاعر الآخرين، ولا يتنمر عليهم يميل دائمًا لتبسيط الأشياء والأحداث، يحب الرحلات ويخطط لأوقات سعيدة ومرحة مع أبنائه.
فكما يُقال المربي الناجح أخلاقٌ طيبة وخصالٌ حميدة، ولا يعني ذلك أنه مُطالب بالتحلي بكل تلك الخصال، لأن ذلك أشبه بالمستحيل، فالله خلقنا غير سواسية في الطباع والقدرات والأخلاق. لذا، فالمربي المؤثر هو الشخص الذي يتقي الله في كل شؤون حياته، ويعلم علم اليقين أن كل مقاليد الأمور بيد الله يقدرها كيف يشاء. وما أمر ابنه إلا بيد الله، لذلك هو يتقي الله في مصدر ماله وفي عمله وفي مطعمه ومشربه، ومن ثم يربي الله له ولده، وصدق الله إذ يقول: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا).
وأجملْ بأن يكوت المربي قدوةً لأبنائه، فالمربي المؤثر يجب أن يكون حكيمًا وأن يجيد فنون التربية بالثواب والعقاب وفنون التربية بالحوار والحب وفنون التربية باللعب وفنون التربية بالقصة وبالحوار، وأن يجيد أساليب التنشئة الاجتماعية والنفسية السليمة للأبناء، حتى لا يقع في أخطاء تربوية ينتج عنها مشكلات نفسية وسلوكية لهم، ويعرف كيف يكون وسيطًا في معاملة الأبناء ما بين الشدة واللين، لا قسوة زائدة ولا تدليل زائد ولا إفراط ولا تفريط، ولا تحكم زائد ولا إهمال.
أرجو ألا تكون من أولئك المربيين المتأثرين بقاعدة ( أبيض وأسود) إنهم أصحاب تلك النظرة التقويمية التي لا ترى في طفلها أو غيرها إلا صوابًا خالصًا أو سوادًا خالصًا، إن النفوس تحتوي على خطوط متداخلة كثيرة، فالمربي الذكي هو الذي يستطيع أن يميز بين هذه الخطوط بشكل دقيق وواضح.
وتكمن خطورة التقويم في كونها الأرضية التي تُبنى عليها كل خططك المستقبلية مع طفلك كمربٍ، إنك عندما تبالغ في تقدير احتياجات ابنك، فإن هذا يعني أنك ستضيع جهودًا كبيرة في أمورٍ لا يحتاجها ابنك أو أنه تجاوزها منذ زمنٍ بعيد.
وبالتالي، لا انفكاك بين عملية التربية وعملية التقويم، وكلما كانت مهاراتك كمربٍ فعّال عالية في التقويم، كلما كنت أكثر دقةً في تحديد شخصية طفلك وما الذي يحتاجه منك بالضبط بصفتك المربي الخاص به.
فالمربي المؤثر بطبعه يتسم بالقدرة على توجيه الاهتمام لأبنائه وكذلك بالقدرة على العطاء، سواء كان العطاء المادي (مطعم ومشرب وملبس ومركب... إلخ) او العطاء المعنوي (ثواب معنوي وحب وحوار وقضاء بعض الأوقات مع الأبناء... إلخ).
إن سر نجاح أي مربٍ يكمن في إكساب قناعات أبنائك إليك، وهكذا من صفات المربي الناجح حُسن الإقناع، فكثيرًا ما نرى أن العديد من المربيين لديهم مهارة الإنصات والحوار لكنهم وللأسف يفتقدون لهذه المهارة الهامة وهي كيفية إقناع أبنائهم بآرائهم والقدرة على التأثير عليهم، وبالتالي لا يتمكنون من تعديل سلوك أبنائهم، بموجب أن حوارهم وإنصاتهم لم يُحقق الأثر المطلوب لذا، لابد من امتلاك أسلوب مقنع.
وبما أن زرع الهمم أشبه بعملية ولادة جديدة لابنك، يخرج فيها من عالمه الخاص ليدخل في حياة جديدة من عوالم الآخرين وهمومهم وتأكد أنه عندما تنجح في دورك ألا وهو كونك مربٍ ناجح في زرع الهمم الذي تريده في نفس طفلك، فسترى منه ما لم تره من نفسك.
بقولنا المربي الناجح نعني قطعًا شخصًا ذا اتزان واستقرار نفسي، أي أنه يستطيع التحكم في انفعالاته ويكون قادرًا على ضبط نفسه واثقًا من نفسه، مؤكدًا لذاته داخل الأسرة مبتعدًا عن العصبية الزائدة والعنف والعدوانية والغضب والسلوكيات السيئة، كالتدخين والمخدرات... إلخ.
فلا شكك أن هذه من أهم صفات المربي الناجح أن يتحمل مسؤوليته تجاه أبنائه، والمسؤولية ليست مطعمًا وملبسًا ومركبًا وإنما هي مسؤولية اجتماعية ونفسية وخلقية ودينية، مسؤولية تربوية قائمة على تعليم أصول التربية السليمة وفنونها، وتذكر دومًا أنك مسؤول عن ابنك في الدنيا ومسؤول عنه في الآخرة.
النضج الانفعالي: إن المدير الأصلح لقيادة المدرسة، هو ذلك الشخص الذي يملك القدرة على مواجهة المواقف والتعامل مع الآخرين بثبات واستقرار وضبط النفس، حيث يكظم انفعالاته ولا يترك مكانًا للتردد والتحيز، مما يجسد المناخ التربوي الملائم ونوعًا من التوافق النفسي والاجتماعي للجماعات المدرسية.
إن المربي المؤثر هو من يبادر في مواجهة كافة المواقف التربوية المحتلفة مع أبنائه، بل ويحسن التصرف فيها كما يسعى إلى اتخاذ القرارات المناسبة، وليس هذا فقط بل ويفكر في حلولٍ لها، ويحاول أن يجد الوسائل الكفيلة لحل مشكلات أبنائه التي تقابلهم، أو كل المشكلات المختلفة التي تظهر في محيط عائلته.
والخلاصة، احرص على ألا تكون المؤثر الوحيد على ابنك، أوجد من بيئته أو أقرانه أو أصدقائه من يكون عونًا لك في مهمتك التربوية، فإن ذلك سيختصر عليك الكثير من الأوقات.
إن أهمية أن يكون الوالدان هما الأكثر تأثيرًا في حياة أبنائهما لكبير جدًا، لأن التقدم التكنولوجي السريع أضعف الروابط الأسرية وقلل من فرص استثمار الأوقات على إثراء العلاقات بينهم، لقد نجح في صناعة " العُزلة الداخلية ".
فيقول أحد الأطباء النفسيين " لنكن واثقين بأننا نربي أساسًا أطفالنا بسلوكنا وأعمالنا أكثر من أقوالنا فالطفل بمثابة كاميرا، يلتقط باستمرار كل ما يراه ويخزنه في ذاكرته وهكذا يقلد في صغره وينسخ في كبره سلوك الأب والأم".
فأنتم كآباء ومربيين حتى ونحن كبار، نحاول بأقصى جهدنا أن ننسخ ما تربينا عليه على يد أبنائنا، إما بوعي أو بدون وعي من جهة ثانية لذا، فهناك دائمًا تحذير للوالدين على ضرورة انعدام التناقض بين أقوالهم وأفعالهم، لأن الأبناء وخاصةً الأطفال سرعان ما يلتقطون هذا بعدسة عينهم وينسخون سلوك والديهم في ذاكرتهم مقلدين لهم.
فمثلًا، عندما يعد الزوج زوجته بشيءٍ ثم يخلف وعده، فتعرض الزوجة على زوجها السفر لبيت والديها لمدة أسبوع هم وأبنائهما، ويعد الزوجة زوجته بالسفر قائلًا " الجمعة القادمة إن شاء الله" وعلى ذلك، تبدأ الأم في ترتيب خططها، مخبرةً أطفالها الذي يفرحون بشدة ويبدأون على الفور بالاستعداد للسفر، وحين يأتي موعد الرحيل والسفر يتحجج الزوج معتذرًا " لنترك هذا الأمر للأسبوع القادم لأن هذا الأسبوع كان مرهقًا جدا لي وكان لدي ضغط شغل أو ....، وأو ....".
ومما سبق، لا بُد أن نستخلص أن هذا خطأ، وأول خطأ في هذا الأمر هو أن الزوج غيّر رأيه وأقره بمفرده دون أي مشاورة ورجعة لا مع زوجته ولا مع أبنائه، غير مقدرٍ لشعور زوجته ولا أهمية هذا السفر بالنسبة لها ولأطفالهم، مما قد يترك فيهم حزنًا عميقًا يكسر فرحتهم بكل سهولة.
إن الخطوة الأولى هي إظهار الحنان والرقة، فالرفق له طريقة خاصة في إطفاء الغضب وأثناء محاولتنا فتح روح شخص ما يجب أن تصبح لغة جسدنا وتعبيرات وجهنا يطغى عليها اللين والرفق والحنان.
إن الخطوة الثانية لفتح روح الطفل هي زيادة فهمك للألم الذي يشعر به وكيف فسر سلوكك المسيء له.
والخطوة الثالثة فى عملية إعادة علاقتك بطفلك هي الاعتراف بأننا كنا مخطئين، لأن ما فعلناه أساء له وربما لم يكن ما فعلناه خطأ فى حد ذاته، ولكن كان الخطأ في الطريقة التي فعلناه بها.
والعامل الرابع هو محاولة لمس الطفل الذي تعرض للإساءة، وهناك العديد من الأسباب لحاجتك إلى ملامسة طفلك عند الإساءة إليه فقبل أي شىء يحتاج الطفل إلى لمسه، وإذا اقترب واستجاب إلى ملامستك عندئذ فذلك مؤشر لكي تعرف أن روح طفلك آخذةً في الانفتاح لك مرة أخرى أو تعيد فتحها بشكل كامل.
إن الخطوة الأخيرة لفتح روح طفلك هي أن تطلب الصفح منه، وتعطيه الفرصة أن يختار أن يسامحك، وذلك بطلب منك،كأن تقول مثلًا: هل يمكن أن تجد لي في قلبك التسامح؟
من أبرز مميزات المواقف التربوية أنه يقوم على التكاتف والتعاون والعمل الجماعي بين المربي وبين أبنائه ممن لهم علاقة بالعملية التربوية ( الأسرة_ الأصدقاء_ الأصدقاء) ومن هنا، تبرز أهمية وجود علاقات اجتماعية قوية وإيجابية بين المربي وبين كلِ هؤلاء وخاصةً الأبناء، من أجل مساعدته على أداء دوره التربوي من غير إرباكٍ أو تعطيل ينتج عنهما تحول المسار عن الأهداف المنشودة، فيتأخر تحقق نتاجات المواقف التربوية في الوقت المحدد لها، أو تتحقق بدرجةٍ ضعيفة.
وفي الختام، عُد بذاكرتك إلى الوراء، وتذكر سنوات عندما كنت صغيرًا، هل كانا والديك هما الأفضلان كمربييْن لك؟
في ذلك الوقت، ربما لم تفكر في سبب تفضيلك لتربية والديك على آباءٍ آخرين، ولكنك قد تُدرك للتو أنك شعرت بالتقدير والحب والدفء في كنف تربية والديك، في الواقع ستجد نفسك ما زلت تشعر بالدفء والغموض عندما تفكر في ملكة جمال تربية والديك الجميلة! فألا تتمنى أن تصبح مثلهم مع أبنائك؟!.