إن ذاكرة الإنسان تقع في أجزاء كثيرة من المخ في وقت واحد، بل وبعض أنواع الذاكرة تدوم وتبقى لفترة أطول من غيرها.
فمنذ اللحظة التي نولد فيها، تُقصَف أدمغتنا وأمخاخنا بكمية هائلة من المعلومات عن أنفسنا والعالم من حولنا إذن، كيف نتمسك بكل ما تعلمناه وجربناه؟ الإجابة ببساطة بفضل الذاكرة.
تُعرَّف الذاكرة بأنها "القدرة على تخزين الخبرات وإدخالها في مجال الوعي في وقت ما بعد حدوث التجربة" وتتمتع أذهاننا بقوة الحفاظ على التجارب وتلقيها عقليًا، عندما يساعد مثل هذا النشاط على التقدم في دورة الحياة.
يحتفظ البشر منّا بأنواع مختلفة من الذاكرة لفترات زمنية مختلفة فمثلًا، تدوم الذاكرة قصيرة المدى من ثوانٍ إلى ساعات، بينما تدوم الذكريات طويلة المدى لسنوات ولدينا أيضًا ذاكرة عاملة، والتي تتيح لنا الاحتفاظ بشيء ما في أذهاننا لفترة محدودة من خلال تكراره فعلى سبيل المثال، عندما تقول رقم هاتف لنفسك مرارًا وتكرارًا لتتذكره، فأنت هكذا تستخدم ذاكرتك العاملة.
وهناك طريقة أخرى لتصنيف الذاكرة وهي من خلال موضوع الذاكرة نفسها، وما إذا كنت واعيًا بها، حيث تتكون الذاكرة التوضيحية، والتي تُسمى أيضًا الذاكرة الصريحة، من أنواع الذكريات التي تختبرها بوعي.
وبعض هذه الذكريات هي حقائق أو "معرفة عامة" أشياء مثل، عاصمة مصر (القاهرة )، أو عدد البطاقات في مجموعة أوراق اللعب القياسية " الكوتشينة" (52)، وبعضها الآخر يكون من أحداث سابقة مررت بها مثل، ذكريات عيد ميلادك في طفولتك.
بينما الذاكرة الإجرائية أو غير التوضيحية والتي تُسمى أيضًا الذاكرة الضمنية، تتراكم دون وعي وتشمل هذه الذاكرة الذكريات الإجرائية، والتي يستخدمها جسدك لتذكر المهارات التي تعلمتها، كهل تعزف على آلة موسيقية أم تحب ركوب الدراجات؟ تلك هي ذكرياتك الإجرائية في الفعل والعمل.
ويمكن للذاكرة الإجرائية وغير التوضيحية أن تشكل استجابات جسمك غير الواعية، مثل إفراز اللعاب عند رؤية طعامك المفضل أو حدوث التوتر عندما ترى شيئًا تخافه.
وبشكل عام، إن الذكريات التوضيحية أسهل في التكوين والتشكيل والاحتفاظ بها من الذكريات غير التوضيحية فمثلًا، يستغرق حفظ عاصمة بلد ما وقتًا أقل مما يستغرقه تعلم العزف على الكمان ولكن الذكريات غير التوضيحية تبقى أكثر سهولة، فبمجرد أن تتعلم ركوب الدراجة لن تنساه أبدًا على الأرجح.
لفهم كيفية تذكرنا للأشياء، من المفيد للغاية دراسة كيفية حدوث النسيان ولهذا السبب يدرس علماء الأعصاب فقدان الذاكرة، وفقدان الذكريات أو القدرة على التعلم وعادةً ما يكون فقدان الذاكرة ناتجًا عن نوع من الصدمات التي يتعرض لها المخ مثل:إصابة في الرأس أو سكتة دماغية أو ورم في المخ أو إدمان الكحول المزمن.
وهناك نوعان رئيسان من فقدان الذاكرة، والأول هو فقدان الذاكرة إلى الوراء، ويحدث عندما تنسى الأشياء التي كنت تعرفها قبل السكتة الدماغية ويحدث فقدان الذاكرة التقدمي عندما تقلل صدمة الدماغ أو توقف قدرة الشخص على تكوين ذكريات جديدة.
وتُعتبر أشهر دراسة حالة لفقدان الذاكرة التقدمي هو هنري مولايسون، الذي تمت إزالة أجزاء من دماغه في عام 1953 كعلاج أخير للنوبات الشديدة بينما يتذكر مولايسون فقط الذي كان معروفًا عندما كان على قيد الحياة بـ"إتش آند إم" H&M- الكثير من ذكريات طفولته، إلا أنه لم يكن قادرًا على تكوين ذكريات توضيحية جديدة.
لذا، كان على الأشخاص الذين عملوا وتعاملوا معه لعقود أن يعيدوا تقديم أنفسهم له في كل زيارة.
ومن خلال دراسة أشخاص مثل، "إتش آند إم" H&M، وكذلك الحيوانات التي تعاني من أنواع مختلفة من تلف الدماغ، يمكن للعلماء تتبع مكان وكيفية تكوين أنواع مختلفة من الذاكرة في الدماغ، فيبدو أن الذاكرة قصيرة المدى وطويلة المدى لا تتشكل بالطريقة نفسها تمامًا، ولا الذاكرة الصريحة والإجرائية.
فلا يوجد مكان واحد في المخ يحمل كل ذكرياتك، حيث تتشكل مناطق مختلفة من الدماغ وتخزن أنواعًا مختلفة من الذكريات، وقد تلعب كل منها عمليات مختلفة وعلى سبيل المثال، توجد الاستجابات العاطفية، مثل الخوف في منطقة دماغية تُسمَى اللوزة الدماغية أو العصبية وترتبط بذكريات المهارات التي تعلمتها بمنطقة مختلفة تُسمَى التخطيط الدماغي.
وتعتبر منطقة تُسمَى الحُصين أو حصان البحر (hippocampus) ضرورية لتكوين الذكريات التقريرية أو الصريحة والاحتفاظ بها واستدعائها، فالفص الصدغي أي مناطق الدماغ التي يمتلكها "إتش آند إم" H&M كانت مفقودة جزئيًا، وهي ما كانت تلعب دورًا حاسمًا في تكوين الذكريات واسترجاعها.
فمنذ الأربعينيات من القرن الماضي، اعتقد العلماء أن الذكريات محفوظة داخل مجموعات من الخلايا العصبية، تُسمَى تجمعات الخلايا وتُطلق هذه الخلايا المترابطة كمجموعة استجابة لمحفز معين، سواء كان وجه صديقك أو رائحة الخبز الطازج وكلما زاد عدد الخلايا العصبية معًا زادت قوة الترابط بين هذه الخلايا، وبهذه الطريقة عندما يحفز محفز مستقبلي الخلايا فمن المرجح أن تشتعل المجموعة بأكملها ويالتالي، يقوم النشاط الجماعي للأعصاب بنسخ ما نختبره وجربناه كذاكرة ولا يزال العلماء يدرسون ويبحثون في تفاصيل كيفية عمله.
ولكي تصبح الذاكرة قصيرة المدى ذاكرة طويلة المدى، يجب تقويتها للتخزين طويل المدى، وهي عملية تسمى توحيد الذاكرة ويُعتقد أن التوحيد يحدث من خلال عدة عمليات إحداها وتُسمى التقوية طويلة المدى، تتكون من أعصاب فردية تعدل نفسها لتنمو وتتحدث إلى الأعصاب المجاورة لها بشكل مختلف، وتؤدي عملية إعادة البناء هذه إلى تغيير اتصالات الأعصاب على المدى الطويل، مما يؤدي إلى استقرار الذاكرة فمثلًا، تستخدم جميع الحيوانات التي لديها ذاكرة طويلة الأمد نفس الآلية الخلوية الأساسية، مما مكّن توصل العلماء إلى تفاصيل عملية التقوية طويلة المدى من خلال دراسة الرخويات البحرية في كاليفورنيا ومع ذلك، ليس بالضرورة أن تبدأ جميع الذكريات طويلة المدى كذكريات قصيرة المدى.
فعندما نتذكر ذكرى ما، فإن أجزاء كثيرة من دماغنا تتحدث مع بعضها بسرعة، بما في ذلك مناطق في قشرة الدماغ تقوم بمعالجة معلومات عالية المستوى، ومناطق تتعامل مع المدخلات الأولية لحواسنا ومنطقة تُسمَى الفص الصدغي، والذي يبدو أنه يساعد في تنسيق تلك العملية
ووجدت إحدى الدراسات الحديثة أنه في الوقت الذي يتذكر فيه المرضى الذكريات التي تشكلت حديثًا، فإن تموجات النشاط العصبي في الفص الصدغي تتزامن مع موجات في قشرة الدماغ.
ومع كل هذا، تبقى العديد من أسرار الذاكرة مثل، ما مدى دقة الذكريات المشفرة داخل مجموعات من الخلايا العصبية؟ ما مدى انتشار الخلايا التي تشفر ذاكرة معينة في الدماغ؟ كيف يتوافق نشاط دماغنا مع الطريقة التي نختبر بها ذاكرتنا؟ فنأمل في المستقبل أن توفر مجالات البحث النشطة هذه يومًا ما رؤية جديدة لوظيفة الدماغ وكيفية علاج الحالات المتعلقة بالذاكرة.
فعلى سبيل المثال، أظهرت آخر الأبحاث والاجتهادات العلمية أنه يجب "إعادة اندماج" بعض الذكريات في كل مرة يتم تذكرها وإذا كان الأمر كذلك، فإن فعل تذكر شيء ما يجعل تلك الذاكرة مرنة مؤقتًا، مما يتيح تقويتها أو إضعافها أو تغييرها بأي طريقة أخرى ويمكن استهداف الذكريات بسهولة أكبر عن طريق الأدوية أثناء عملية إعادة الاندماج، مما قد يساعد في علاج حالات مثل اضطراب ما بعد الصدمة PTSD.